كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّابِعَةَ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفَيْرُوزَأَبَادِيُّ فِي قَامُوسِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَمْرِ الثَّانِي يَعْنِي عَنْهُ مَا عَلَّلَ بِهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ يُدْعَيَانِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرِينَتَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ جَعَلْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْفَوَاتِحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَإِنَّ الْجِنَّ وَالْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ مُفْتَتَحَاتٌ بِـ {قُلْ} مَعَ الْفَصْلِ بِعِدَّةِ سُوَرٍ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْفَصْلِ بِسُورَتَيْنِ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَخْلُو مَا ذَكَرَهُ عَنْ نَظَرٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فَتَأَمَّلْ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَأَقُولُ: إِنَّ جَوَابَ عُثْمَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا هُوَ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا مَنْ كَانَ يَكْتُبُ يَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا. فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ. اهـ.
وَلِأَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَهَبَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَ جَمِيعِ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَوَافَقَهُ السَّيُوطِيُّ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُرَتِّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ السُّوَرِ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَارَضَهُ بِالْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، فَأَيْنَ كَانَ يَضَعُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِ؟ التَّحْقِيقُ أَنَّ وَضْعَهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا تَوْقِيفِيٌّ وَإِنْ فَاتَ عُثْمَانَ أَوْ نَسِيَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ الْجُمْهُورُ أَوْ نَاقَشُوهُ فِيهِ عِنْدَ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ جَمْعِهِ وَنَشْرِهِ فِي الْأَقْطَارِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ هَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ أَوْ غَيْرُهُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَكَانَ كَاتِبَهُ، وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فِي أَمْرِ الْمَصَاحِفِ، وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ.
فَمِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مِمَّا يُؤْخَذُ بِهِ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا الْمَشْيَخَةُ أَيِ الْمَشَايِخُ فَثَبَتُوا تَحْتَ الرَّايَاتِ، وَأَمَّا الشُّبَّانُ فَسَارَعُوا إِلَى الْقَتْلِ وَالْغَنَائِمِ، فَقَالَتِ الْمَشْيَخَةُ لِلشُّبَّانِ: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ رِدْءًا وَلَوْ كَانَ مِنْكُمْ شَيْءٌ لَلَجَأْتُمْ إِلَيْنَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَتَلَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَوْهَبَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ إِيَّاهُ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وُكِّلَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخُمُسِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ غَزْوَةِ بَدْرٍ تَنَازَعَ فِيهَا حَائِزُوهَا مِنَ الشُّبَّانِ وَسَائِرِ الْمُقَاتِلَةِ، وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الْأَنْفَالُ جَمْعُ نَفْلٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مِنَ النَّفْلِ- بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ- أَيِ الزِّيَادَةُ عَنِ الْوَاجِبِ وَمِنْهُ الصَّلَاةُ النَّفْلُ- قَالَ الرَّاغِبُ: النَّفْلُ: هُوَ الْغَنِيمَةُ بِعَيْنِهَا، لَكِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَةُ عَنْهُ لِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُ إِذَا اعْتُبِرَ بِكَوْنِهِ مَظْفُورًا بِهِ، يُقَالُ: غَنِيمَةٌ، وَإِذَا اعْتُبِرَ بِكَوْنِهِ مِنْحَةً مِنَ اللهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ يُقَالُ لَهُ:
نَفْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَقَالَ: الْغَنِيمَةُ كُلُّ مَا حَصَلَ مُسْتَغْنَمًا بِتَعَبٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ تَعَبٍ، وَبِاسْتِحْقَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَقَبْلَ الظَّفَرِ كَانَ أَوْ بَعْدَهُ، وَالنَّفْلُ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَهُوَ الْفَيْءُ، وَقِيلَ: مَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَتَاعِ قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ الْغَنَائِمُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الْآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَنِ الْأَنْفَالِ لِمَنْ هِيَ؟ أَلِلشُّبَّانِ أَمْ لِلْمَشْيَخَةِ؟ أَمْ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْ لِلْأَنْصَارِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ: قُلْ لَهُمْ: الْأَنْفَالُ لِلَّهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِهِ، وَلِلرَّسُولِ يُقَسِّمُهَا بِحَسَبِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَسَّمَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّفْصِيلَ الَّذِي سَيَأْتِي فِي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [41] إِلَخْ، فَيَكُونُ التَّفْصِيلُ نَاسِخًا لِلْإِجْمَالِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، فَالصَّوَابُ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ مَصَارِفَهَا فِي آيَةِ الْخُمُسِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْجَيْشِ مَا شَاءَ قَبْلَ التَّخْمِيسِ فَاتَّقُوا اللهَ فِي الْمُشَاجَرَةِ وَالْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ، وَسَيَأْتِي فِي الصُّورَةِ مَضَارُّ ذَلِكَ وَلاسيما فِي حَالِ الْحَرْبِ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ: أَصْلِحُوا نَفْسَ مَا بَيْنِكُمْ، وَهِيَ الْحَالُ وَالصِّلَةُ الَّتِي بَيْنَكُمْ تَرْبِطُ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَهِيَ رَابِطَةُ الْإِسْلَامِ، وَإِصْلَاحُهَا يَكُونُ بِالْوِفَاقِ وَالتَّعَاوُنِ وَالْمُوَاسَاةِ وَتَرْكِ الْأَثَرَةِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْإِيثَارِ أَيْضًا، وَالْبَيْنُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الِاتِّصَالِ وَالِافْتِرَاقِ، وَكُلِّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَمَا قَالَ: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [6: 94] وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الرَّابِطَةِ بِذَاتِ الْبَيْنِ، وَأُمِرْنَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْأُمَّةِ وَعِزَّتُهَا وَمَنَعَتُهَا وَتُحْفَظُ بِهِ وَحْدَتُهَا وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي الْغَنَائِمِ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَقَضَاءٍ وَحُكْمٍ، فَاللهُ تَعَالَى يُطَاعُ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَالِكُ أَمْرِهِمْ، وَالرَّسُولُ يُطَاعُ فِي أَمْرِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَمُبَيِّنٌ لِوَحْيِهِ فِيهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْحُكْمِ، وَهَذِهِ الطَّاعَةُ لَهُ تَعَبُّدِيَّةٌ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ فِيهَا، وَتَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا النَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَوْزُ بِثَوَابِهَا، وَيُطَاعُ فِي اجْتِهَادِهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلاسيما الْحَرْبَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْإِمَامُ الْقَائِدُ الْعَامُّ، فَمُخَالَفَتُهُ إِخْلَالٌ بِالنِّظَامِ الْعَامِّ، وَإِفْضَاءٌ إِلَى الْفَوْضَى الَّتِي لَا تَقُومُ مَعَهَا لِلْأُمَّةِ قَائِمَةٌ، فَهَذِهِ الطَّاعَةُ وَاجِبَةٌ شَرْعًا كَالْأُولَى إِلَّا أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، فَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ، وَإِدَارَتِهِ بِمُشَاوَرَةِ الْأُمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَأَشْرَكَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسَيَأْتِي كَيْفَ رَاجَعَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ الْمُفَصَّلَةِ أَحْكَامُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّأْيِ الَّذِي ظَهَرَ صَوَابُهُ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ الْأَخِيرَ لابد أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَمَا شَاوَرَهُمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْبَقَاءِ فِيهَا، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْمُشَاوَرَةُ، وَعَزَمَ عَلَى تَنْفِيذِ رَأْيِ الْجُمْهُورِ رَاجَعُوهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مُرَاجَعَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مَعَ حِكْمَتِهِ فِي تَفْسِيرِ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [3: 159] وَتَرَى فِي تِلْكَ السُّورَةِ كَيْفَ كَانَتْ مُخَالَفَةُ الرُّمَاةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبًا فِي ظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [3: 165]
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مِنْ حَقِّ الطَّاعَةِ فِي تَنْفِيذِ الْمَشْرُوعِ، وَإِدَارَةِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَقِيَادَةِ الْجُنْدِ مَا كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، مُقَيَّدًا بِعَدَمِ مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِمُشَاوَرَةِ أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [4: 59] الْآيَةَ.
ثُمَّ قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ: فَامْتَثِلُوا الْأَوَامِرَ الثَّلَاثَةَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَبَهُ، وَالْمُؤْمِنُ بِاللهِ غَيْرُ الْمُرْتَابِ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ يَكُونُ لَهُ سَائِقٌ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لَهُ مَا يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ أَوْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَيَتُوبَ إِلَيْهِ مِمَّا عَرَضَ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [4: 17] إِلَخْ، ثُمَّ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَيُثْبِتُهُ فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيَّنَ فِي شَرْطِيَّةِ الْآيَةِ قَبْلَهَا شَأْنَهُمْ مِنَ التَّقْوَى وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي الْأُمَّةِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَ ذِكْرُهَا مَعْرِفَةً تَكُونُ عَيْنَ الْأُولَى، أَوْ بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانِ مُطْلَقًا؛ لِيُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ هِيَ بَعْضُ شَأْنِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ صِفَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ الَّتِي يُخَاطَبُ بِهَا مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعَالَمِ بِهِ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ، وَهِيَ إِنَّمَا كَمَا حَقَّقَهُ إِمَامُ الْفَنِّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، وَصَفَهُمْ بِخَمْسِ صِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَجَلُ اسْتِشْعَارُ الْخَوْفِ، يَعْنِي مَا يَجْعَلُ الْقَلْبَ يَشْعُرُ بِهِ بِالْفِعْلِ، وَعَبَّرَ غَيْرُهُ عَنْهُ بِالْفَزَعِ وَالْخَوْفِ وَبَابُهُ فَرِحَ وَتَعِبَ وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوْفَ تَوَقُّعُ أَمْرٍ مُؤْلِمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَصْحَبُهُ شُعُورُ الْأَلَمِ وَالْفَزَعِ، وَقَدْ يُفَارِقُهُ لِضَعْفِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِ بُعْدِ أَجَلِهِ، فَالْوَجَلُ وَالْفَزَعُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ مِنْ حِوَارِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ضَيْفِهِ الْمُنْكَرِينَ.
قال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ} [15: 52، 53] إِلَخْ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُشْفِقِينَ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [23: 60] فَالْوَجَلُ هُنَا مُقْتَرِنٌ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [22: 34، 35] وَهِيَ بِمَعْنَى آيَةِ الْأَنْفَالِ، وَلَيْسَ لِلْوَجَلِ ذِكْرٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَتَّفِقُ مَعْنَى الْوَجَلِ فِيهَا بِأَنَّهُ الْفَزَعُ وَشُعُورُ الْخَوْفِ يُلِمُّ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْخَوْفُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْمَهَابَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ، يَا شَهْرُ بْنَ حَوْشَبٍ، أَمَا تَجِدُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَادْعُ اللهَ فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: قَالَ فُلَانٌ: إِنِّي لَأَعْلَمُ مَتَى يُسْتَجَابُ لِي: قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدِي، وَوَجِلَ قَلْبِي، وَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَذَلِكَ حِينَ يُسْتَجَابُ لِي، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ إِلَّا كَضَرَمَةِ السَّعَفَةِ، فَإِذَا وَجِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَدْعُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَالسَّعَفَةُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ السَّعَفِ وَهُوَ جَرِيدُ النَّخْلِ إِذَا احْتَرَقَ يُسْمَعُ لَهُ نَشِيشٌ، شَبَّهَتْ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ شُعُورَ الرَّجُلِ يُلِمُّ بِالْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فَيَخْفِقُ لَهُ.
وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللهِ ذِكْرُ الْقَلْبِ لِعَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَلَالِهِ، أَوْ لِوَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ، وَمُحَاسَبَتِهِ لِخَلْقِهِ وَإِدَانَتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ سَوَاءٌ صَحِبَهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ أَمْ لَا، وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ تَرْتِيلُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي صَلَاةِ التَّهَجُّدِ فِي الْخَلْوَةِ اللهُ أَكْبَرُ مُسْتَحْضِرًا لِمَعْنَى كِبْرِيَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَنْتَفِضُ وَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ، فَمَنْ خَصَّ الذِّكْرَ هُنَا بِالْوَعِيدِ غَفَلَ عَنْ كُلِّ هَذَا، وَظَنَّ أَنَّ الْوَجَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خَوْفِ الْعَذَابِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْخَشْيَةِ وَالْوَجَلِ مِنْ مَهَابَةِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعِزَّةِ سُلْطَانِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَمْ يقرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [35: 28] وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ يَخْشَعُ قَلْبُهُ وَيُفِيضُ دَمْعُهُ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ اللهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [59: 21- 22] إِلَخْ، وَلَا يَجِدُ مِثْلَ هَذَا الْوَجَلِ عِنْدَ وَصْفِ جَهَنَّمَ، وَذِكْرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِثْلَ هَذَا مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ فَهْمِهِ بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِدُونِ شُعُورٍ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ، فَيُقَابِلُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَبَيْنَ قوله:
تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [13: 28] فَيَظُنُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعَارُضًا فَيُحَاوِلُ التَّفَصِّي مِنْهُ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى ذِكْرِ الْوَعْدِ، وَالْآخَرِ عَلَى ذِكْرِ الْوَعِيدِ، وَلَا تَعَارُضَ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا تَنَافِيَ، فَفِي كُلٍّ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ وَذِكْرِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ اطْمِئْنَانٌ لِلْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالثِّقَةُ بِمَا عِنْدَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَسْطُهُ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا ذِكْرَ يُضْرِمُ سَعَفَةَ الْوَجَلِ فِي الْقَلْبِ كَتِلَاوَةِ كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [39: 23].
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أَيْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا، أَيْ يَقِينًا فِي الْإِذْعَانِ، وَقُوَّةً فِي الِاطْمِئْنَانِ، وَسَعَةً فِي الْعِرْفَانِ، وَنَشَاطًا فِي الْأَعْمَالِ، وَيُطْلَقُ الْإِيمَانُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مَجْمُوعِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْقَرَائِنُ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَفِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ صَحِيحَيْهِمَا شَوَاهِدُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَحَادِيثُ أَقَلِّ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي فِي الْآخِرَةِ وَحَدِيثُ الْإِيمَانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَلِهَذَا حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ عَلَى زِيَادَةِ الْعَمَلِ اللَّازِمِ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي فَسَّرُوهُ بِالتَّصْدِيقِ الْقَطْعِيِّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ نَفْسَهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ أَيْضًا، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا بِإِحْيَاءِ اللهِ لِلْمَوْتَى لَمَّا دَعَاهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِيهَا {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [2: 260] فَمَقَامُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْإِيمَانِ يَزِيدُ عَلَى مَا دُونَهُ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ قُوَّةً وَكَمَالًا، وَيَرْوِي عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ الْإِيمَانِ بِالْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ التَّقْلِيدِ الَّذِي قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَكَانَ يَقِينًا، وَالْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ فِي الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ الْإِجْمَالِيِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الَّتِي تُنَافِيهِ أَوْ تُنَافِي كَمَالَهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ وَغَيْرُهُمَا، وَكَمْ مِنْ مُدَّعٍ لِتَوْحِيدِ اللهِ وَنَاطِقٍ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهُوَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، و«الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا.